top of page

غرباء إلا اسم ...

  • Writer: Seen
    Seen
  • May 29, 2020
  • 3 min read

Updated: Jun 6, 2020

جلبة من المطبخ تتناهى إلى مسمعه.

يفتح عينيه ويلقي نظرة كاملة الاستدارة حول الغرفة، مرَّ بالساعة وكانت تشير إلى الـ٧:٥٧ص، فأخذ يكمل جولته البصرية.

يد الباب الموارب، الثياب المُعلَّقة خلفه، رفوف المكتبة، تسريحة بأشياء مبعثرة، فرشاة الشعر موضوعة على طرف الطاولة بشكل مربك، يكاد يسمع أنينها من فرط التوجُّس وهي مُعلَّقة ما بين السقوط والثبات.

يأخذ نفساً عميقاً وينتقل بعينيه إلى الكرسي فيشيح عنه سريعاً، كمَّ البعثرة على أذرعته و حوله تبثُّ فيه قلقاً عارماً.

كل هذه الأفكار كي يستنفذ آخر ثلاث دقائق إلى أن يرن المنبِّه كي يقوم من السرير. لأنَّه يتشاءم من الاستيقاظ في دقائق حرجة من الساعة كالـسابعة والخمسين، أقرب ما تكون لتمام الساعة لكنها ليست تامَّة، وليست نصف ولا رُبع، ولا حتَّى عشرية كاملة، كالـ٥٠ أو ٥٥. دقيقة مستفزة!


المهم ..انطلق صوت المنبِّه بحماسه الساذج كالعادة فأطفأه بخمول، وقال في ذاته: " لا تسوي انَّك مصحِّيني، أنا صاحي من سنة".

خرج يمشي إلى مصدر الجلبة بتثاقل، يتلو آيات الهدوء، كيف يخبرها دون أن يستشيط انفعالاً أن تترفَّق في الصباح؟

أنشأ يتدرَّب:

" صباح الخير .. بعض الناس مستعجلين اليوم .. بليز بشويش لمَّا تصحي قبلي."

أعادها في سره عدداً من المرات، كل مرَّة يشعر أنَّ النهاية مبتورة. فقرر أن يضيف اسمها في ذيل الجملة لتلطِّف وقع الكلام، وليبدي تودُّده رغم انزعاجه. تذييل الكلام أو افتتاحه بالنداء له أثر بالغ. ولو حاولنا إعراب الاسم في جملته لقلنا: علامة تأكيد الود رغم السياق ظاهرة في آخر الجملة.


كان متحرجاً من أن يخبرها بانزعاجه في الصباح، لذلك عمد إلى حشو الكلام ببعض المزاح على غير عادته، لكن سيلاً هادراً من الأفكار الحالكة انهال فجأة عليه فزاد غضباً، ولمَّا تلاقيا وجدها تنهي إفطارها على عجل. وقف يحدِّق بها. لم يستطع أن يتفوَّه بكلمة، امَّحى كل الكلام من ذاكرته، حتى اسمها أفلت منه.


أرابها تشنجه ،،فاستفهمت: "أش في؟"

- ولا شي ،، صباح الخير.

و مضى سريعا نحو دورة المياه.


زادها ردُّه ذهولاً. بالعادة يلقي عليها التصبيحة بنبرة عادية، والعادي الذي تعرفه هو نبرة كسولة ناقمة على الصباح وعلى العمل وعلى العالم.

صباحهم المألوف صامت غالباً. لا يطيلون فيه الحديث أبداً. يستيقظ كل منهما على حداً، يمضي في شؤونه من الإفطار والاستعداد للخروج، الصورة المعاكسة لكل الابتذال الذي يصورونه من صباحات مفعمة بالحيوية والنشاط في المسلسلات، حيث يتشارك الأزواج مائدة فطور ويتناولون مواضيع شتَّى. كانا مؤمنين أن الصباح يليق به السكوت، وهو مساحة شخصية لكل منهما. لا تتجاوز أحاديثهم حدود هذا السياق: من يستيقظ أخيراً يبتدئ التصبيح، و من يخرج أولا يحظى بالتوديعة الأسمى: الله معاك رداً على: مع السلامة. هذا الطبيعي، أما اليوم فإن كلامه مكتسٍ بشيء من الغضب والحنقة.

فلماذا؟

أخذت تتساءل. نوع من الحساسية يصيبك لما يكون شريك الحياة شخص مصاب بالـوسواس القهري.

"أوه، يمكن لأني ما رتَّبت القربعة قبل ما أنام"

فدخلت لترتِّب الغرفة، كنوع من الاعتذار الفعلي. ليست من اللواتي يبذرن في الاعتذار، ولا من يبتدئن به إلا إن كانت على يقين بخطئها، كما في هذه المرة. وبقدر ما تبدو البعثرة سببا سخيفاً لا يحق لأحد أن يغضب منه ولا يستوجب منها اعتذاراً، إلَّا أنها كانت تفهم أنَّ الأمر أكثر من مجرَّد منظر مبعثر، هو حالة ذهنية لا يملك أن يفعل حيالها شيئاً.

كانت تصلِّي في سرِّها وهي ترتِّب:

"أتمنى أن يجد شيئاً من السلام وسط الفوضى،، أن يرهف سمعه للنغم الناشز بين الضجيج ،، أن ينتشي بالبعثرة التي تقتل الرتابة"


أمَّا هو فقد أطال في استحمامه هذه المرَّة، أغمض عينيه ودلَّك رأسه بشدَّة كناية عن تدليك عقله، يريد أن يستحثَّه على استرجاع اسمها الذي ما يزال طي النسيان.

خرج نحو الغرفة ببطء، إنَّها طبيعتنا أن نتريَّث أثناء محاولات التذكُّر ونسرع إذا أردنا أن ننسى، هذا حسب الرياضياَّت الوجودية التي أشار إليها كونديرا.

وجدها ترتب، ولا زال الارتباك بادٍ عليه حتى أمسك بهاتفه و وجد دليله، رهف .. اسمها رهف؟!

لما ننسى شيء ثمَّ نتذكره، يأخذ حيزه من ذاكرتنا، حيِّز نعرفه جيِّداً.

أما هذه المرة سقط الاسم عليه وكأنه يقرأه لأول مرة. لكن تقاسيم وجهه أخذت ترتاح، فلاحظتها وانتقل إليها شيئاً من السكون.

انتهت من الترتيب ومضت نحو الباب خارجة، "يلا مع السلامة" .

- "الله معاكِ رهف". هكذا اكتمل هدوؤها، لما ذيل التوديعة بالاسم، نفياً لكل غضب وتأكيداً للوداد.



أتعرفون مالذي حدث لذاكرته، مالذي ابتلع اسمها ولفظه جهة النسيان؟
إنَّه الغضب. كل مرة نغضب فيها من أحد نحبه يتلاشى شيء منهم في ذاكرتنا، حتى يأتي علينا يوم نكون فيه غرباء إلَّا اسم. نتساءل كيف صرنا على هذا الحال، وأين ذهب الحب القديم، وماذا نفعل الآن؟!

العزاء أنَّ الأشياء تعود إلى الذاكرة وتلتصق بشكل أقوى إذا تأمَّلنا المواقف والتمسنا لهم عذراً أو هم اعتذروا.

لا شيء يُبقي الحب دافئاً بين الناس غير اعتذار خالص تلوَ المواقف الخاطئة، وإلَّا مات الشعور برداً.




 
 
 

Comments


bottom of page